كلنا سوريون | العدد 36 | 03 أيلول 2015

د. خولة حسن الحديد – كلنا سوريون

عقب نشر أخبار جريمة الهجوم على مقرّ صحيفة ” شارلي إيبدو” في باريس مطلع يناير الماضي، كتبت سورية لاجئة في باريس على صفحتها وعلى سبيل الدُعابة: “يا ويلي لا يوجد خبز في البيت ومن سيجرؤ الآن على الذهاب إلى الماركت لشراء خبز “، وفي خبر عن مقتل مواطنين سويديّين في مدينة ستوكهولم خلال الأيّام الماضية أثناء وجودهم في مكان عملهم كتب أحد السوريّين: “جريمة في ستوكهولم والمتورّطون ملامحهم شرق أوسطيّة، يا رب ما يكون إلنا علاقة يا رب نحن مو ناقصين”، عقب هذا الكلام انهالت التعليقات من المقيمين في السويد ليجمد بالنهاية الجميع، إذ تبيّن أنّ المجرمين أريتيريّان!

 عدم التوازن والشعور بالذنب

وهذا ما تشهده صفحات “الفيس بوك” وتغريدات “توتير” عقب كلّ جريمة تحصل في مدينة أوربّيّة وفي الغرب عموماً، إذ تبرز مخاوف السوريّين إلى المقدّمة من بين كلّ همومهم، وردّة الفعل هذه تعكس مخاوف كبيرة وقلقاً دائماً من الاتّهام، فأنت مُدان لمجرّد انتمائك لمكان ما. هذا كلّه تعبير عن الشعور بالذنب تجاه قضايا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وهذا الشعور بالذنب ينعكس أحياناً بطريقة تبريريّة مبالغ فيها بهدف التبرّؤ من بيئة المجرم وكلّ ما ينتمي إليه، فبعد حادثة “شارلي إيبدو” وبالرغم من إعلان المسؤولين الفرنسيّين وحتّى الأكثر تطرّفاً بينهم، أنّ المجرم لا يمثّل المسلمين وأنّ قيم الإسلام تتنافى مع سلوك مرتكب الجريمة هذه، إلّا أنّ غالبية اللاجئين السوريّين في فرنسا وعموم أوربّا كتبوا سيلاً من الموضوعات التي وصلت حدّ شتم الإسلام و المسلمين ووصفهم بأبشع الأوصاف، وظهروا بمظهر مبالغ فيه فكانوا ملكيّين أكثر من الملك. هذه المبالغة لم تظهر في هذه القضيّة فقط وإنّما تتمظهر في عدد من المظاهر كتلك التي حصلت أيضاً عندما أصدرت أمريكا قانوناً يقرّ بزواج المثليّين، وبقدرة قادر تحوّلت هذه القضيّة إلى قضيّة مركزيّة بين السوريّين – رغم هول قضاياهم وتعقيدها – وبادر غالبيّة من هم في الخارج إلى تغيير واجهة صفحاتهم وصور “بروفايلاتهم” إلى الألوان المعبّرة عن الإقرار بحقوق المثليّين، وأصبحت هذه القضيّة مثار جدل واسع بينهم

إنّ السلوك المبالغ فيه لإظهار الاندماج والتفهّم، أو للتبرّؤ من هويّة معيّنة بسبب مجرم ما، ما هو إلّا انعكاس لحالة من عدم التوازن النفسيّ وشعور كبير بالذنب الذي تحوّل إلى “عقدة”، فتغيب المحاكمة العقليّة ليدرك اللاجئ أنّه في بلد فيها قانون وهو محميّ وفق هذا القانون، وأنّ تلك البلاد تحاسب المجرم فقط ولا تعمم على أبناء قوميّته أو دينه.

 صدمات نفسيّة

ولا يقتصر شعور اللاجئ السوريّ إلى أروبّا بالذنب بسبب هذه القضيّة فقط، وإنّما يُعاني كثيرون بحسب ما يكتبونه من صراعات نفسيّة كبيرة تعكس هذا الشعور بسبب كونهم أصبحوا يعيشون في أمان واطمئنان بينما عدد من أفراد عائلاتهم وأصدقاءهم ما زالوا معرّضين للخطر داخل سورية، وينتابهم شعور وكأنّهم خذلوهم وغادروهم بحثاً عن سلامتهم تاركينهم لمصيرهم، ويزداد هذا الشعور ومعه القلق الكبير عندما تتأخّر إجراءات لمّ شمل العائلات، فيعيش المرء في دوامة القلق على سلامة أفراد عائلته ومصيرهم من جهة وقلق الانتظار من جهة أخرى، خاصّة عندما تأخذ تلك الإجراءات وقتاً طويلاً يمتدّ أحياناً لأكثر من سنة بعد الحصول على الإقامة، وكثيراً ما فقد بعض اللاجئين عدد من أفراد أسرهم الأقرب لهم خلال مدّة الانتظار تلك، و في تقرير عن منظّمة“ProAsyl” الألمانيّة للدفاع عن اللاجئين يقول عضو المنظّمة “بيرند ميوفيتش” :”إنّ العبء الكبير يكمن في إجراءات اللجوء الطويلة المدى، إذ يمكن أن تستغرق عمليّة البحث والتحقيقات فترة قد تصل إلى سنة ونصف، هذا بالإضافة إلى تمديد إذن الإقامة لمدّة قصيرة فقط. وهو ما يزيد من مخاوف طالبي اللجوء”. تقول المتخصّصة في العلاج النفسيّ “إيليز بيتنبيندر” في الجمعيّة الوطنيّة لمراكز العلاج النفسيّ للاجئين وضحايا التعذيب: “إنّ فترة الانتظار وعدم اليقين تزيد من حدّة الاضطرابات والصدمات النفسيّة، التي تعرّض لها طالبو اللجوء خلال رحلة هربهم”، وتشير “بيتنبيندر” إلى تزايد نسبة حالات طالبي اللجوء، الذين يتوافدون على المراكز من أجل الحصول على العلاج في مراكز الجمعيّة التي تضمّ /25/ من المراكز المتخصّصة في علاج اللاجئين المصابين بصدمات نفسيّة.

آلام الأطفال والأسرة

ويبرز الشعور بالذنب أيضاً لدى بعض اللاجئين الذين فقدوا أحد أفراد عائلاتهم أو أصدقاءهم خلال رحلة العبور إلى أوربّا عبر البحر أو البرّ مشياً على الأقدام لمسافات طويلة، حصل هذا و تكرّر عشرات المرات، فالشخص الذي فقد بعضاً من أطفاله أو زوجته، والأمّ التي فقدت طفلها، كلّ هؤلاء يعيشون آلاماً كبيرة يصعب احتمالها بسبب شعورهم بالتقصير أو تحميل أنفسهم مسؤوليّة ما جرى، وتترك رحلة العبور تلك آلاماً نفسيّة لا يبرأ منها البعض إلّا بمساعدة الأطّباء والمتخصّصين، فإضافة للضغوط النفسيّة والاجتماعيّة التي لاقاها اللاجئ في بلاده والتي دفعته للهجرة غير الشرعيّة، يمرّ خلال رحلة اللجوء بظروف قاسية تترك رضوضاً نفسيّة كبيرة لديه، خاصّة لدى فئات الأطفال واليافعين فقد تعرّض عدد كبير منهم لمجموعة من الصدمات النفسيّة، فهم إمّا تعرّضوا للعنف بشكل مباشر أو تعرّضت حياتهم للخطر، أو فقدوا أفراداً من أسرهم ومنازلهم أحياناً، ليضاف إلى ذلك الظروف القاسية التي عاشوها حتّى وصلوا إلى برّ الأمان؛ لذلك تنتشر بين الأطفال من مختلف الأعمار حالات التبوّل اللاإراديّ كردّ فعل للقلق ومشاعر الخوف الشديد، وحالات من السلوك العدوانيّ والانطواء والعزلة، وتحتاج هذه الحالات إلى جلسات علاجيّة قد تشمل الأسرة كلّها لتساعدهم على إعادة تأسيس بيئة نفسيّة متوازنة وزيادة مهارات التكيّف لديهم. هذا وتكبر المأساة أكثر إذا ما أضفنا قصّة مئات الأطفال والقاصرين الذين يصلون بلدان اللجوء بمفردهم، ويقضي بعضهم شهوراً طويلة في اليونان وهنغاريا وغيرها، ويتعرّضون للإهانة والضرب والتحرّش الجنسيّ أحياناً، وتُبيّن ألعاب الأطفال وانشغالاتهم تلك الظروف القاسية وأثرها على شخصيّتهم بشكل واضح، إذ  أشارت تقارير “الهيئة الطبّيّة الدوليّة” التي تقدّم مساعدات للاجئين إلى أنّ اهتمامات الأطفال اللاجئين وطريقة تفاعلهم ولعبهم تغيّرت، فيلعب الأطفال لعبة تسمى “نقاط التفتيش والبحث”، يمثّلون فيها أنّهم يمرّون من نقطة تفتيش أمنيّة، ويقوم كلّ منهم بإجراء تفتيش جسديّ للآخر، ومن هواياتهم المفضّلة الأخرى لعبة “الشهيد”، حيث يمثّل أحد الأطفال أنّه ميت، في حين يحمله أو يحملها الباقون في موكب جنازة وهميّة.

 اغتراب وحواجز وفروق

يُضاف إلى ما سبق تلك المخاوف الشديدة التي يبديها البعض من المستقبل المجهول، وذلك يظهر بتكرار الأسئلة وبإلحاح كبير عن قضايا الإقامة الدائمة وكيفيّة تحوّلها إلى جنسيّة، وإمكانيّة الترحيل، ومدى القدرة على الاندماج وتأمين فرص عمل جيدة، وغيرها من قضايا تتعلّق بالمستقبل.

 كلّ تلك الحالات المذكورة تبيّن حاجة اللاجئين الملحّة إلى المساعدة النفسيّة بغية زيادة القدرة لديهم على المواجهة واستعادة الشعور بالسيطرة على سلامتهم النفسيّة.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى الغربة النفسيّة التي يعانيها اللاجئ، وتبرز من خلال تعبيره المبالغ فيه عن الحنين للأماكن وأصناف الطعام وتجمّعات الأهل والأصدقاء في بلده، ويزيد هذا الشعور بالاغتراب من صعوبات الاندماج في المجتمع الجديد إضافة لصعوبات اللغة وإمكانيّة تخطّي الحواجز والفروق الاجتماعيّة والثقافيّة الكبيرة، خاصّة بالنسبة لكبار السنّ الذين عليهم بدء حياتهم من جديد بعد أن وصلوا إلى مراحل عمريّة يُفترض أن يجنوا خلالها ثمار جهدهم الماضي كلّه. لا شكّ أنّ اللجوء يمنح اللاجئ فرصة حياة آمنة ويعيش الأطفال في بيئة سليمة تحقّق حاجاتهم الأساسيّة في النمو والتي باتت غير متوفّرة في وطنهم، وتساعد الشباب على استئناف حياتهم ومواصلة تعليمهم والحصول على فرص عمل جيّدة، كما أنّ اللجوء مع العائلة أو لمّ شمل العائلة لاحقاً يساعد على الاندماج في البيئة والمجتمع والثقافة الجديدة، ويقلّل من آثار الاغتراب النفسيّ.

عدم الكلام

لم يخبر السوريّون اللجوء قبل الثورة السوريّة إلّا كمستضيفين للاجئين، لذلك شكّلت حالة اللجوء صدمة كبيرة لغالبيّتهم، ولكن هذا كلّه يقتضي تجاوز الأوضاع الصعبة والظروف الطارئة، وعليهم ألّا يترّددوا في طلب المساعدة من أجل ذلك، إذ تشير بعض التقارير أنّه من المشكلات التي يواجهها الأطبّاء لأسباب ثقافيّة “أنّ كثيرين من المرضى يفضلون عدم الكلام عن الجراح النفسيّة، رغم أنّه من الشائع أن ينهار آخرون ويروون تجاربهم خلال العلاج”، وعلى السوريّين التعامل مع تجربة اللجوء في أوربّا كفرصة طيّبة لإعادة بناء حياتهم من جديد واكتساب الخبرات والاستفادة من فرص التعليم المتاحة. هذا كلّه يساهم مستقبلاً في جعلهم عنصراً فاعلاً في إعادة بناء بلدهم المدمّر، أو تأسيس جاليات قويّة في بلدان إقامتهم تلعب دوراً مهمّاً في نصرة قضايا بلادهم.

المصادر:

–           منظّمة أطبّاء بلا حدود

–           تقارير إعلاميّة في كلّ من: ARA News – النرويج، DW – 2015

–           العربيّة للدراسات

التعليقات

//