طلعنا عالحرية | العدد 55 | 06 أيلول 2015

رامي العاشق

هوَ البحرُ مجدّدًا، حديثُ الأحياءِ الذي لا يُعرف من راكبيه سوى القليل من الموتى، يقول من نجا: « لم يكن هناك سبيلٌ للعودة، الموتُ خلفنا، وأمامنا الحياة إن اجتزنا هذا الموت الأزرق». وتصبح وجوهُ السوريّين في الماءِ طاغيةً على وجهِ السّماء، ويصبح الملحُ أكثرَ صبرًا، أجسادٌ تتكثّفُ بقوارب مطّاطيّة تتّسع عادةً لعشرة أشخاص، باتت تحمل ستّين شخصًا هاربًا إلى حياةٍ أخرى، الحياةُ المنشودةُ هنا ليستْ الجنّة، بل حياةٌ طبيعيّة تحافظ على كرامة الإنسانِ وحريّته، ليصبحَ ركوب البحرِ أعظمَ الجهادِ وأطهره.

قبل ركوب البحرِ، توجّه ركّاب القارب إلى مكان (المهرِّب) الذي وضعهم في ما يشبه الإسطبل حتى يكتمل العدد، يقول أبو محمود الدوماني (اسم مستعار): «المهرّب تاجر بشر، لا يعنيه رجل أو امرأة، طفل أو عجوز، وجميع المهرّبين الذين قابلناهم كانوا من متعاطي المخدّرات أو السكارى»، هناك كانت سيّارة شاحنة لها صندوق مغلق، تستعمل لنقل القمامة والزفت، كانَ في المجموعة ثلاث نساءٍ وأربعة أطفال، وضعوا النّساءَ في المقاعد الأماميّة والرجال في الصندوق وأغلقوا الباب عليهم، حوالي 52 رجلًا في الصندوق، كادوا أن يختنقوا، السيارة مسرعة بشكل جنوني، الرجال في الخلف بدؤوا يشمّون رائحة حريق، بدأ الضرب على السيارة من الداخل ولكن السائق السكران لم يستجب، اتّصلوا بالمهرّب الأصلي ليتّصل بالسائق ووعدهم أن يتصل به ويردّ عليهم، بدأت أصوات غريبة من محرك السيارة تُسمَع، كما أنّ غيارات السرعة لم تعد تعمل، والرائحة تزداد، فجأة وقفت السيّارة، اتصلوا بالمهرّب الذي يتحدّث العربية، قال لهم إن (الدبرياج) احترق وسيرسلون سيّارة بديلة، الرجال في الصندوق على وشك الاختناق، ولا يستطيعون التواصل مع النساء في المقدّمة، وكلّ الضرب على جدران السيّارة لم يُجدِ نفعًا، المهرّب الذي يتواصلون معه عبر الهاتف يعدهم بأنّ أحدًا ما سيأتي ليفتح الباب لهم، ولكن أحدًا لم يأتِ، فجأة سمعوا صوت ضربة قوية أشبه بحادث سيّارة، في هذه الأثناء، كانَ السائق المخمور قد نزل من السيّارة مترنّحًا وأقفل أبواب السيّارة، وكان يتحدّث على الهاتف ليخبر شركاءه بالعطل، فجأة ضربته سيّارة وهربت فسقط أرضًا ثم أتت سيّارة أخرى وأخذته.

أم محمد شاهدت الحادث، والأبواب مقفلة عليهم، والرجال بالخلف قاربوا على الموت اختناقًا، انتبهت أم محمد أن قفل أحد الأبواب معطّل ومربوط بحبل، حاولت فكّه فلم تستطع، امرأة أخرى كانت تحمل قصّاصة أظافر، فتحت سكّينتها الصغيرة وأعطتها لأم محمد التي قطعت الحبل ونزلت إلى الخلف، ضربت على الصندوق وصاحت: «الشوفير هرب!» حاول أبو محمود أن يهدّئها ويرشدها كيف يمكن أن تفتح صندوق الشاحنة، الساعة الثانية فجرًا، ولا يريدون لفت أنظار الشرطة لوجودهم، فتحت الصندوق، وأنقذت قرابة الاثنين وخمسين رجًلا كادوا أن يموتوا اختناقًا، نزلوا وتفرّقوا في (أزمير).

في اليوم التالي، تجمّعوا في مكانٍ آخر، وفي نقطة انطلاقٍ أخرى تسمّى (مرمريس) قضوا ليلة في الغابة وقرّروا الانطلاق إلى جزيرة (تسيمي) اليونانية، كانوا قد درسوا طبيعة الجزر اليونانية مسبقًا،  فهناك جزر عسكريّة تمارس العنف على اللاجئين إليها وتعتقلهم وهناك جزر مدنيّة تسهل الإجراءات فيها أكثر.

يبدأُ الرجال بنفخِ القاربِ، فيتعطّل المنفاخ، فيكملونَ نفخهُ بأفواههم لأنّ الانتظارَ ترفٌ لا يملكونه، ينضجُ (البلم) ويوضع عليه المحرّك، وتتكثّف الأجسادُ في الظلامِ حذرَ خفرِ السواحل، لا شيءَ يدلّهم على الضفّة الأخرى سوى البوصلة، أكثرُ من ستّينَ طالبًا للحياةِ بينهم الكثير من النساءِ والأطفالِ يتكدّسونَ هنا في هذا (البلم) الذي أصبحَ بحجم أحلامهم، إلّا أن هذه الأحلام سرعان ما تبدّدت حين اكتشف خفر السواحل التركي أمرهم، فلاحقهم، وأطلق الأعيرة الناريّة في الهواء، وصوّر قائد القارب، فخاف الأخير وأوقف القاربَ، وانتهى صمتُ الليل والبحرِ وعمّ الصراخُ وصارت النساءُ تبكي، والرجال تبكي وتكبّر، وبعضهم رفع أطفاله عاليًا ليراهم خفر السواحل ويتوقّف عن إطلاق النّار، إنّه ذعرُ الهاربِ من الموتِ حينَ يراهُ جهرة، يرمي خفر السواحلِ حبلًا إلى قائد القاربِ ليربطه بالقاربِ ليسحبوه، ويلقوا القبض على من فيه، فيمسك به، ويبدأ بذلك، فتهمّ (أم محمد) لترمي الحبلَ وتعيد تشغيل القارب وتنطلق!

أبو يزن عروس سوريّ من درعا، خرجَ مع عروسه في البحرِ قاصدين ألمانيا، كانت أحلامهما معلّقة في هذه الرحلة، حينَ وصلَ إلى الشواطئ اليونانيّة، تنفّس الصعداء ولملم بعضَ حزنه، وذاكرته التي امتلأت بصورِ الرجال الذين كانوا يبكون عندما اعترضتهم سفينة خفر السواحل ثمّ قال: « أم محمّد بـ 100 رجّال، والله لولاها كنّا بالسجن بتركيا هلأ، الرجال صاروا يبكوا وهيي ما انهزّتلا شعرة».

(أم محمّد) لم تقد مركبًا في حياتها، كانت مرتبكةً كثيرًا، أيّة حركةٍ غير مدروسةٍ قد تودي بحياةِ الأطفال والنّساءِ والرجال الذين أصبحوا في رعايتها، أحدهم يمسك بالبوصلة ويصرخ دالًّا على جهة الإبحار، وخفرُ السواحل مازال يطلق النّار في الهواء، (أم محمد) المرتبكة لا تستطيع السيطرةَ على القارب، باتت تقترب من سفينة خفر السواحل دونَ أن تدرك، كادتْ أن ترتطم بها، الرجال يرفعونَ أطفالهم بأيديهم ويصرخون على خفر السواحل أن يكفّوا عن إطلاق النار، ويصيحون : «أطفال.. أطفال»، سيّدتان بدأتا بالإقياء بشكل جنوني لأنهما كانتا تحملان في أحشائهما سوريّين جدد، خفر السواحل التركي أرتبكَ أيضًا، فالقارب يمكن أن يرتطم بالسفينة في أية لحظة، وقد يتسببون في مقتل كلّ من عليه، و(أم محمّد) مازالت مصرّة على عبور البحر ولا تريدُ أن تتوقّف، القاربُ يقتربُ من السفينةِ والسفينةُ تهربُ منه، حتّى استطاعت (أم محمد) السيطرة على القارب والابتعاد عن السفينة باتجاه الضفّة الأخرى، وسط ذهول الركّاب وصدّمتهم، وذهول رجال خفر السواحل الذين شيّعوا القاربَ بأعينهم وظلّوا يراقبونه من بعيد بدهشة لم يعرفوها قبل، من هذه المرأة؟ وماذا رأت كي تغامر هذه المغامرة وتملك هذه الشجاعة غير المألوفة!

عندما وصل الناجون إلى الجزيرة اليونانيّة، قاموا بالغناء والرقص والاحتفال بعراضة شاميّة كبيرةٍ تهتف لأم محمد التي أنقذتهم مرّتين، مرّة من الاختناق، ومرّة من الاعتقال أو الغرق، تقول أم محمّد: «لم أكن في وعيي مطلقًا، وربّما لو عاد الزمن لما فعلتها، الأطفال كانوا السبب ربّما» شهد الطفلة الحمصيّة من مدينة القصير التي لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، ركضت إليها وقبّلتها، وقالت لها وهي تبكي: «هذه محاولتي الخامسة، ثلاث مرّات غرقتُ وأنقذوني، ومرّة أمسكني رجال الشرطة وهذه الأخيرة، نجوت فيها بفضلك!».

في هذه الأثناء، لم يكن هناك وقت للكلام، تركوا للبكاء فرصته ليقول كلمته.

التعليقات

//