سوريتنا | العدد 206 | 30 آب 2015
سوريتنا – عامر محمد
عشرات التقارير التلفزيونية أنجرت خلال ساعات قليلة، بعضها من النمسا على الطريق السريع قرب فيينا، حين اكتشفت حافلة تحمل جثث السوريين، تنافست القنوات في عرض اللحم، وسارعت لتحليل طريقة الموت، ذكرت قنوات النمسا أن الأمر مأسوي، فيما لاحقت الشرطة عبر البثِّ المباشر الجناة إلى إن ألقت القبض عليهم، تقارير أخرى استخدمت فيها المروحيات، لتصور الجثث الطافية في المتوسط، ما نزال جثة شيقة في عناوين نشرات الأخبار.
أكثر من مئة وسبعين مهاجراً قضوا في الأسبوع الماضي، سبعون منهم قضوا خنقاً في شاحنة اللحم، ومئة بلعهم المتوسط من جديد، بحر يكلف عبوره آلافاً من الدولارات لكل لاجئ، قد يكون باع ما ترك له النظام من أرض وبيت ومتاع، أو استدان من ناجين آخرين، كي يصل إلى مخيم أوربي يقضي فيه ما تبقى من عمره دون خوف جديد.
عقدُ الموت هو، يبرمه أب نيابة عن أطفاله مع القارب المطاطي أو ذلك التجاري المهترئ، عبر وسيط هو تاجر بشر يكاد يكون شرعياً تماماً، إذ تعرفه على الأقل عواصم مطلة على المتوسطة، فلا أنقرة ولا أثينا ولا روما، بجاهلة ما يحدث في بحرها ومياهها، لكن غض الطرف عن قوارب الموت، والاستفادة منها في نقل اللاجئين الصالحين للحياة، هو الغالب في الأمر، عمال وطبقة كادحة ممتنة لسيد أبيض طالما قتل حين كان مستعمراً، واليوم يقتله حين بات مراقباً لمجازر نظام سياسي لم تعد تخيفه الخطابات الأوربية.
تنتظر أوربا ولا تتصرف، يهتز إعلامها لشاحنة اللحم التي تقلُّ مهاجرين، وفي السياسية لا جديد، ولن يكون هناك جديد، تصريح مقتضب لميركل، تقول فيه إن الأزمة السورية تشهد انفراجاً، وكفى بالأوربيين شرَّ القتال، فيما يناقش مجلس الأمن أحكام تنظيم الدولة “داعش” بحقِّ المثليين في سوريا، ولا يناقش المجلس ذاته وضع المأكولين من السمك.
في سوريا تقرِّر هيئة الشام الإسلامية أنَّ السفر إلى بلاد “الكفار” حرام مطلق، وتقول في فتوى صدرت مساء السبت كصدى للموت السوري، أنَّ “الأصلَ في السّفرِ والانتقالِ مِن بلاد الشّام إلى البلاد غير الإسلامية في الظّروف الحالية هو: المنع” شارحة لنا أن المسلم يجب أن يسافر إلى بلاد المسلمين فقط، وتنسى الهيئة أو ربما تتناسى أن بلاد المسلمين كلها، برأت من دم المسلم السوري، وحرمت عليه الوصول إليها وإلا انتهت منه بطريقتها وأرسلته إلى النظام، تتابع الهيئة في فتواها لتصل إلى الجنسية التي من الممكن أن يحصل عليها من يقامر بعمره فتقول “تحريمُ التجنّسُ بجنسية الدُّولِ غيرِ الإسلاميّةِ، إلا في حال الضّرورة، كمَن فقد جنسيتَه بسبب الاضطهاد في بلده، أو ضُيِّق عليه بسببِها، أو عجَز عن استخراج الأوراق الثبوتية اللازمة، ولم يستطع أنْ يحصل على جنسية بلدٍ مِن بلاد المسلمين”.
كانت أطراف عدة قد سبقت الهيئة في التحريم وإن لم تكن جهات وشخصيات دينية، فكثيراً ما قالت الموالاة الكلام ذاته ، مع فرقٍ يتمثلُ في أنها كانت تعتبر البلد آمناً لا ضير فيه، وأن السفر وترك “الوطن في مخاضه” خيانة لا بد من نيل القصاص، فيما يغرد الشامتون من معسكر النظام بموت السوري العدو غارقاً في المتوسط، أو مخنوقاً في الشاحنة أو أرض بلاده.
ومن دمشق، يطل قاتلهم الأول ومهجرهم، ليتحدث من جديد عن إرادة الشعب وصموده، وعن دولة منتخبة وحكومة شرعية، ناسياً أنه لا يملك اليوم أكثر من قصره ليحكمه، بعد أن باتت طهران هي الحكومة والشرعية، وصار نصر الله رئيس البلاد أو ما تبقى منها، لكن لما لا ما دام العالم ينظر ولا يفعل، يتابع ولا يريد أن يغير، فيما يشتكي من تدفق اللاجئين وكأنه لا يعرف مما يهربون إليه، لترى واشنطن أنَّ التدفق المذهل للاجئين، ناتج عن العنف في الشرق الأوسط، استنتاج أمريكي، يثير السخرية من هول سذاجته.
ويصرُّ الأسد عبر المنار على أنَّ الحل السياسي لا يسبق الحل العسكري، بالبراميل حيناً وبالصواريخ حيناً آخر، ويتابع الأسد حله السياسي، بينما يراقب من يواليه، حتى اليوم، مذهولاً كيف يترُك قريب جديدٌ له، حراً بعد القتل، كرمى لعيونِ العائلة المقدسة التي تستبيح البلاد، فلم ينقلْ خبرُ إطلاق سراح سليمان الأسد على شريط العاجل على قنوات النظام، كما كان خبر القبض عليه.
لم يهاجر المعارضون فقط، الموالاة أيضاَ وجدت طريقها نحو أوروبا بطرق شتى، من طرطوس إلى مرسين التركية، ثم الجزر اليونانية مروراً ببلدان أوروبا الفقيرة، وصل أنصاف الشبيحة والأكثر انتهازية منهم إلى البلاد التي كانوا يسمونها حتى الأمس، تشارك في “سفك الدم السوري” لكنهم فروا إليها هرباً من نظامهم الذي بات عاجزاً حتى عن بيعهم وَهمَ النصر.
على مواقع التواصل الاجتماعي، يفرح السوري بانسحاب ألمانيا من اتفاقية دبلن، لا يفكرُ أيُّ أحد من المغردين فرحاً، بالخطوة الغريبة والتي تحتاج لعشرات السنوات، قبل أن تكشف أسبابها السياسية، تقدَّس ميركل، وتوصف بالأم الحنون، تنقل التايمز الخبر عن مواقع التواصل، وكأنه الأهمُّ، صورة ميركل مع العلم الألماني، كما كان يوضع وجه الأسد مع العلم الأحمر، ويصبح التشبيح الجديد حتى لوكان مزاحاً، خبراً عن السوري، فيما نسي من لم يصل، ولم يعرف السباحة، ولم يعرف الحياة.