الرقة بوست | العدد 5 | 12 تموز 2016
معاوية حمود
اسم داريا مشتق من السريانية، ويعني الدور الكثيرة، وقد ورد ذكرها في “العهد القديم”، وارتبطت بدمشق كغوطتها الغربية، وعانت المحن في جميع الحقب الزمنية، ولم تسلم حتى من التتار. وغم كل ذلك، لم ينلها عبر تاريخها الطويل، شرٌّ كما فعل بها نظام الأسد.
وتمكنت قوات النظام مدعومة بمليشيات متعددة الجنسيات، الأحد، من السيطرة على مساحات واسعة في القطاعين الغربي والجنوبي داخل مدينة داريا. وتكمن أهمية هذه القطاعات بأنها تضم الأراضي الزراعية التي يعيش من انتاجها حوالى 1500 عائلة داخل المدينة المحاصرة منذ أربعة أعوام.
وجاءت سيطرة قوات النظام والمليشيات على تلك المناطق، بعد ثلاث سنوات ونصف من سياسة الأرض المحروقة، ألقت خلالها حوامات النظام ما يزيد عن سبعة آلاف برميل متفجر، يحوي أصغرها أكثر من ربع طن من المتفجرات، بالإضافة إلى مئات آلاف الصواريخ وقذائف المدفعية. قوات النظام استخدمت للوصول إلى تلك المنطقة داخل داريا، كل ما في ترسانتها العسكرية، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية والنابالم والفوسفور، “المحرمة” دولياً، وسط صمت عالمي مُعيب.
لا أحد يستطيع الآن تخيل ما سيحصل لمدنيي داريا ومقاتليها، في ظل تقدم قوات النظام الأخير، ولم تعلن أي دولة أو منظمة إنسانية موقفاً من المجزرة المرعبة الموشكة الحدوث في المدينة، في حال استمرت قوات النظام في حرب الإبادة. “الأمم المتحدة” لم تتجاوب مع نداءات النشطاء المدنيين المحاصرين، حتى لطرح التفاوض مع النظام، متذرعة بـ”إمكاناتها المحدودة”.
تمثال “إيروس” إله الحب عند الرومان، المعروض في متحف دمشق، وُجد في داريا. لا أحد يذكر ذلك اليوم، كما لا يذكر “المجتمع الدولي” اللوحات التي خطّها أبناء داريا، وكتبوا عليها “ثورة أخلاق”. لم يذكر “المجتمع الدولي” المدينة المحاصرة المنكوبة، وهي تباد وتحرق على مرأى العالم، لسنوات، سوى ببيانات وهمية كاذبة. المدينة تُذبح، وأجهزة النظام الأمنية مختلفة في ما بينها في كيفية القضاء عليها وعلى سكانها. فـ”الحرس الجمهوري” يرى أن إخراج المقاتلين من المدينة هو أفضل الحلول، لما فيه مصلحة كبيرة لـ”قوات النخبة” تقيها تكبد المزيد من الخسائر الفادحة في الأرواح. فمع كل يوم جديد، ومع كل تضييق للخناق على المدينة، تزداد ضراوة وشراسة المدافعين عن حياتهم. والآن، وبعدما انتهت قوات النظام من الاستيلاء على الأراضي الزراعية المفتوحة، ستنتقل إلى مواجهات مميتة، بين الأبنية والأنفاق، والتي يمتلك مقاتلو المدينة فيها قدرة هائلة على المناورة مستفيدين مع انحسار إستخدام الطيران الحربي والصواريخ شديدة التدمير، نتيجة تواجد الطرفين في حيّز مكاني ضيق. “المخابرات الجوية” و”الأمن العسكري” غير راضيين عن هذا الحل، نتيجة رغبتهما الكبيرة في الإنتقام من المدينة التي تعتبر رمز الثورة السورية الأول. ولا تخفي هذه الأجهزة تخوفها من وصول هؤلاء الثوار إلى مناطق مفتوحة في الشمال السوري، وحصولهم على سلاح نوعي، ما قد يجعل منهم خطراً أكبر. فجر الثلاثاء، دفعت قوات النظام بتعزيزات بشرية هائلة من المشاة والمدرعات، وبدأت جولة جديدة من القصف، في انتصار على ما يبدو، لخيار الانتقام، والاجهاز على المدينة ورمزيتها. ويقاتل في المدينة أبناؤها ممن انشقوا أو فرّوا من الخدمة العسكرية الإلزامية. أغلبهم من المتعلمين وأصحاب المهن. الجيش السوري الحر في داريا ممثلاً بـ”لواء شهداء الإسلام” هو القوة الرئيسة المدافعة عن المدينة، كما تتواجد فيها مجموعات صغيرة تابعة لـ”الإتحاد الإسلامي لأجناد الشام”. وينضوي “لواء شهداء الإسلام” في صفوف “الجبهة الجنوبية” التي تعهدت فصائلها بالدفاع المشترك عن بعضها البعض، ضد أي هجوم من قبل النظام أو تنظيم “الدولة الإسلامية”. لكن “الجبهة الجنوبية” لم تلتزم أبداً بتعهداتها تجاه داريا. وحتى “جبهة النصرة” والفصائل الإسلامية، مثل “أحرار الشام” و”جيش الإسلام”، لم تقدم شيئاً يذكر للمدينة، سوى الخطابات الإعلامية والتغني ببطولات أبنائها الذين كبدّوا قوات النظام عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، خلال المعركة الطويلة ضد وجودهم، بإمكاناتهم الشحيحة. “لا يخفى واقع المدينة على أحد”، كما يقول القائد الميداني في داريا أبو عبيدة، فـ”الجبهة الجنوبية” على علم تام بكل ما يجري في داريا، لكنها لم تفعل شيئاً رغم اتفاقية الدفاع المشترك. رسائل استغاثة كثيرة كانت قد صدرت عن المحاصرين في المدينة، لم يستجب لها، سوى مئات الشباب من معضمية الشام، وعشرات من أبناء دمشق والأرياف القريبة، وجميعهم قضوا على ترابها يدافعون عن المدنيين فيها، بعد المجازر المتعددة التي شهدتها المدينة. أول رسائل الإستغاثة كانت من غياث مطر، الذي وزع وروداً وعبوات ماء لقوات النظام التي احتلت المدينة لقمع التظاهرات السلمية فيها. “الأخوة” الذين أراد غياث استنفار النخوة فيهم، قتلوه، ونكّلت “المخابرات الجوية” بجثمانه. وفي مراسم عزائه، حضر سفير الولايات المتحدة حينها في سوريا، روبرت فورد، ليقول “نحن معكم ونؤيد موقفكم ونتفهّم قضيتكم”. وفي الجواب على تلك الرسائل، قال قائد “الفرقة الرابعة” ماهر الأسد: “سنزرعها بطاطا”، بمعنى أنه سيفني المدينة عن بكرة أبيها، ويجعلها أرضاً مفلوحة. وهذا ما يكاد يُصبح واقعاً. ثلاث سنوات وسبعة أشهر، عُمر المعركة في داريا، لم يؤازرها فيها أي فصيل عسكري خارجي، ولم تتلقَ دعماً عسكرياً من أحد. ومع ذلك صمدت بوجه أحدث أسلحة النظام العسكرية. أطفال داريا سمعوا ذات يوم بأن “الأمم المتحدة” إجتمعت لأجلهم، وقررت إدخال المساعدات الغذائية لهم، فتخيلوا طعم الحلوى والشوكولاته والحليب. لكن “الأمم” وبعد رضوخ مُذّل لنظام الأسد، تمكنت من إدخال شحنة مساعدات واحدة، خلت من الغذاء تقريباً. لا يملك أبناء المدينة صواريخ متطورة لصد الدبابات الروسية الحديثة، ولم يعد لديهم سقوف تحميهم من القصف. والمعركة الراهنة، وعشرات آلاف المقاتلين المزودين بأحدث الأسلحة، الذين زجّ بهم النظام للحسم، تهدف لانهاء المدينة وسكانها، في انتقام وحشي، لا يُفهم إلا في سياق بربرية نظام الأسد وأجندته الطائفية، وعار المجتمع الدولي. في الحصار ولد في داريا أطفال كُثر، وعاشوا في الملاجئ، وقتلوا قبل أن يشاهدوا ضوء النهار، أو السيارات في الشوارع، قبل أن يعرفوا ماهية الكهرباء، أو الحاجة للبراد. في الحصار الطويل نسي أهل داريا شكل رغيف الخبز وطعم الرز. وغداً، وبعد أن تنتهي معركة الإبادة الأخيرة ضد المدينة، قد ينسى العالم أن داريا قاومت البربرية والاستبداد، وقد ينسى أيضاً طعم الحرية.