طلعنا عالحرية | العدد 66 | 7 آذار 2016
شوكت غرز الدين
ربما الضبابية في قرار الهدنة تتيح تأويلات متعددة تتضمن وعوداً تجعل منها هدنة لا تنهار. فالوضوح الكامل يجعل الأطراف في حالة “مانوية”: أي خيارين لا ثالث لهما، هما الرفض والقبول، الأسود والأبيض، بينما الضبابية تؤدي لموقف ملتبس ومتداخل وتضعنا وجهاً لوجه مع السياسة والواقع.
إذا ما رسمنا خطاً بيانياً لدراسة الهدنة خلال ستة أيام نجده خطاً تنازلياً يُعبِّر عن انخفاض عدد الضحايا، وانخفاض تدفق اللاجئين من جهة أولى. ومن جهة ثانية نجده خطاً تصاعدياً يُعبِّر عن زيادة في إيصال المساعدات الغذائية والطبيّة للمناطق المحاصرة، وعودة تدريجيّة للتظاهر السلمي في بعض المناطق المحررة. وهذا يعني أنَّ الهدنة لصالح السوريين نسبياً لا بالمطلق.
وبالرغم من هشاشة هذه الهدنة، وانخفاض سقف التوقعات والآمال منها، إلّا أنها أسهمت بتغيير المزاج العام الذي كان محبطاً ويائساً وانتقامياً لصالح بعض التفاؤل والسلم والتسامح. وهذا يعني من جملة ما يعنيه قابلية هذه الهدنة للتمديد والالتزام فيها بشكل متنامٍ.
ربما الضبابية في قرار الهدنة تتيح تأويلات متعددة تتضمن وعوداً تجعل منها هدنة لا تنهار. فالوضوح الكامل يجعل الأطراف في حالة “مانوية”: أي خيارين لا ثالث لهما، هما الرفض والقبول، الأسود والأبيض، بينما الضبابية تؤدي لموقف ملتبس ومتداخل وتضعنا وجهاً لوجه مع السياسة والواقع. وهنا نجد أنَّ للضبابية الكامنة في قرار الهدنة وظيفة في مآلها الاستمراري وفي تمديديها لاحقاً؛ فقرار الهدنة يحمل وعوداً مختلفة لأطراف متخالفة ومتصارعة تجعل من جميع الأطراف رابحين في آن.
وبين المجهول والمعلوم، في قرار الهدنة، تستمر الهدنة بتثاقل ولا تنهار بالرغم من الخرق الموثّق لها، لما تحمِله من وعود وضمانات من جهة، ولأنها لا تتضمن آليات رادعة وفورية تلجم صاحب الخرق من جهة ثانية. بل على العكس من ذلك، ستتجدد هذه الهدنة وستواكب العودة إلى العملية التفاوضية التي تأجل انطلاقها إلى 9 آذار 2016.
يَعِدُ قرار الهدنة ويضمن عدم استهداف قوات النظام والقوى الداعمة لهذا النظام مستقبلاً إنْ هي التزمت بقرار الهدنة. والمقصود “بالقوى الداعمة للنظام” يبقى حتى الآن مجهولاً: فهل تشمل حزب الله والحرس الثوري الإيراني وأبو الفضل العباس وكتائب الحماية الكردية وقطعان الشبيحة واللجان الشعبية وكتائب البعث ولجان الحماية الذاتية…؟! ومن المعروف أنَّ النظام يميل لعدم تدويل قضاياه ليقينه أنَّ من يسقطه هو عمل دوليّ فقط. فلذلك من مصلحة هذه القوى والنظام الذي تدعمه أنْ تظهر بمظهر الملتزم بالهدنة كي تتجنب استهدافها دولياً وإقليمياً. وبذلك تكتفي هذه القوى شرّ ما يسميه الأميركيون “الخطة ب”، والتي سينفذها التحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتحدة الأميركية جواً و التحالف الإسلاميّ بقيادة المملكة العربية السعودية وتركيا براً.
وحتى الآن يبقى مجهولاً كذلك مَنْ هو سوى داعش والنصرة على قائمة الإرهاب، وهذا يزيد من الضبابية التي تغلِّف قرار الهدنة، بالإضافة للمصير المجهول أيضاً للمناطق التي فيها تداخل من جهة المعارضة في بعض مناطقها مع داعش أو النصرة، ومن جهة النظام والتداخل مع مناطق حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أو حزب الله…
والحق يقال إنَّ الهدنة برزت للوجود إثر الاستعصاء السوريّ الذي لفّ الجميع بما فيهم الروس أولاً، ولقطع الطريق على تصعيد بريّ سعوديّ/تركيّ ثانياً، واستنكار شعوب العالم للتمادي في القتل والقصف والبراميل والحصار؛ وهو الشيء لذي ينتج عنه تصاعد في تدفق اللاجئين وعدم احتمال الضمير العالمي لمشاهد الموت جوعاً وغرقاً وتحت التعذيب ونتيجة للقصف الروسيّ/السوريّ المجنون ثالثاً.
ورغم هذا البروز المعقد للهدنة، على أكثر من صعيد، يبقى المرجح استمرار الهدنة وتمديدها لما فيها من ضبابية وعدم تعيين، وللوعود التي تحملها، ولغياب الردع المباشر والفوري وحضور التوعد والوعيد بخطط بديلة جويّة وبريّة وتَعرُض للهجوم، فعلى ما يبدو أنها هدنة بدأت لتبقى وتتمدد لا لتنهار.
وبتدقيق أكبر لفحوى الهدنة عموماً نجد أنَّ الهدنة رمت بعدم تعيينها (للقوى الداعمة للنظام، ولمناطق التداخل، وللقوى الإرهابية باستثناء داعش والنصرة، ولهوية المشاركين في الحرب المستمرة على داعش والنصرة وسواهما ممن سيحدده مجلس الأمن لاحقاً) مشاكل السوريين إلى الأمام وإلى المستقبل القريب والمتوسط. وهو ما سيتم تعيينه مستقبلاً حسب موازين القوى والمصالح ومفاعيل الزمن. وهذا يعني فيما يعنيه أنَّ على السوريين وضع كلّ ثقلهم في المعادلة ليتمّ تعيين المجهول والمعلوم في معادلتهم للمساهمة في تمديد الهدنة، وصولاً لوقف شامل لإطلاق النار، ولزحزحة العمليّة التفاوضيّة.
وفي ظل هذا يحاول رأس النظام تصعيد رغباته المنفصمة عن الواقع لقناعته بأنه شريك في محاربة داعش والنصرة ومن سيسميهم مجلس الأمن لاحقاً، بهدف إيهام حلفائه ومناصريه أنَّه مركز القضية السوريّة ومركز المنطقة وأنَّه سيعيد كامل الأراضي السوريّة إلى سيطرته مع مرور الوقت وأنَّه سيصدر عفواً عمن يلقي السلاح من خصومه ويصدر قراراً بالانتخابات التشريعية في 13 نيسان… وكأن الروس والإيرانيين والأمريكيين والأتراك والسعوديين يعملون عنده وحسب رغباته وأوهامه!!
وهذا كله سيتحطّم على صخرة الواقع والسياسة، كما تحطمت منزلة الإنسان بوصفه مركز الكون على يد “كوبرنيكوس”. وعندها يثبت للجميع أنَّ رأس النظام ما هو إلّا جزء هامشيّ من القضية السوريّة قياساً بواقعها ومستقبلها. فعلى السوريين ومعارضتهم تجاوز أوهام رأس النظام باتباع منهج ميكافيلي الذي مفاده: “لنخرج رأسنا من الواقع بدلاً من أن نخرج الواقع من رأسنا، ولنذهب مباشرة إلى الواقع بدلاً من الاكتفاء بتخيله”!