الغربال | العدد 28 | 19 آب 2015

يواصل المهاجرون من سوريا والعراق وغيرها محاولاتهم للعبور نحو اليونان عبر البحر بالرغم من المخاطر الجمّة التي باتت تكتنف رحلة العبور فرغم تكلفة الرحلة التي ارتفعت بشكل كبير مؤخراً ورغم مخاطر تعرض المهاجرين لعمليات احتيال أو تعرضهم للاعتقال أو الغرق فإنهم يصرون على خوض التحدي معتمدين على مساعدة مافيا التهريب التي لا ترحم أحداً

إزمير – رامي سويد

على الطريق الذي يصل كراجات “البولمان” بحي باصماني البسيط في مدينة إزمير التركية ينتشر آلاف السوريين والعراقيين والمصريين والفلسطينيين والأفغان والباكستانين والأفارقة، حيث يفترش الرجال والأطفال والنساء بلاط أرصفة الطرقات أو عشب الحدائق بانتظار أن يفي أحد سماسرة التهريب بوعوده المتضمنة نقلهم بالقارب المطاطي المسمى بالبلمْ من الساحل التركي المطل على بحر إيجة إلى إحدى الجزر اليونانية القريبة من هذا الساحل، أملاً بالعبور من خلالها نحو العاصمة اليونانية أثينا ومن ثم الوصول إلى إحدى دول شمال وغرب أوربا.

ينتظر معظم هؤلاء أياماً طويلة في العراء وعوداً خلبية يومية من سماسرة التهريب الذين يحملون أسماءً مستعارة من قبيل: “أبو رياض، وأبو أحمد، وأبو منذر..”، فيتعرضون للابتزاز ولعمليات نصب واحتيال كثيرة قبل أن ينجحوا في عبور البحر نحو الجزر اليونانية أو قبل أن يضطروا لأن يعودوا أدراجهم بسبب نفاذ مدخراتهم.

مافيا التهريب تتلاعب بالمهاجرين

الهاربون من الحروب وانعدام الأمن والبطالة في الدول المصدّرة للاجئين يصلون في العادة إلى مدينة إزمير التركية ومدن مارمريس وبودروم الواقعة جنوبها بعد أن يقضوا شهوراً في جمع مبالغ مالية تغطي تكلفة سفرهم أو بعد أن يجلبوا معهم مدخرات عائلاتهم أو أموال استدانوها من أصدقائهم أو معارفهم، هذه المبالغ هي ما تعتاش عليه مافيات تهريب البشر في المدن التركية المطلة على بحر إيجة الذي يفصل بين تركيا والجزر التابعة لليونان والتي باتت تعتبر مدخل لاجئي الشرق وإفريقيا نحو أوربا.

وتتكون مافيا تهريب البشر في المدن التركية الساحلية من هيكل هرمي يشكل السماسرة قاعدته الواسعة، فالسماسرة، السوريون والعراقيون والفلسطينيون والباكستانيون والذين يحملون جنسيات أخرى تكون من نفس جنسيات المهاجرين غالباً، يقومون بمهمة التواصل مع اللاجئين والتفاوض معهم على موعد رحلة التهريب وكلفتها.

في المستوى الأضيق من الهرم هناك مجموعة المهربين الأتراك، الذين تتمحور مهمتهم حول تأمين “البلم” واختيار نقاط الانطلاق المناسبة من الساحل بعيداً عن أعين عناصر “البوليس” التركي أو بالتنسيق معهم، ويعمل جميع هؤلاء لصالح شخص واحد، تركي الجنسية، يطلق عليه أسم “الأوسطة” أو “المعلم”، هوية هذا الشخص مجهولة حتى بالنسبة للمهربين، وهو يتواصل معهم عن طريق مندوبين يقومون بإيصال التعليمات يومياً من “الأوسطة” إلى المهربين كما يقومون بقبض المبالغ المالية التي يحصل عليها المهربون من اللاجئين يومياً لإيصالها للأوسطة.

لا يكون لدى اللاجئين الواصلين إلى إزمير أو مارماريس أو بودورم إلا الاتصال بالسماسرة الذين يقومون بالتفاوض معهم على موعد الرحلة وكلفتها وكيفية الدفع، يطلب السمسار مبلغا يتراوح بين 1000 و1400 دولار أمريكي مقابل نقل الشخص الواحد بالبلمْ إلى إحدى الجزر اليونانية، ويطلب من الزبون أن يودع نقوده في أحد مكاتب التأمين، وهي مكاتب افتتحت خصيصاً لغرض تسهيل عملية الدفع لمافيا تهريب المهاجرين.

يوجد ثلاث مكاتب تأمين للنقود في مدينة إزمير ويقوم عملها على قبض الأموال من المهاجرين وإيداعها لديها بإشراف المهربين بعد تسليم اللاجئ رقماً سرياً يمكّن حائزه من سحب المال المودع، بحيث يقوم المهاجر بتسليم الرقم للمهرب بعد أن يصل لليونان حتى يستطيع المهرب سحب النقود.

يقول مضر الأحمد، وهو مهاجر يبحث في إزمير عن وسيلة للوصول إلى اليونان، للغربال: “مكاتب التأمين تابعة لمافيا التهريب، وهي تعمل بتنسيق كامل مع السماسرة والمهربين، إذا قمت بإيداع نقودك في مكتب التأمين وأخلف المهرب أو السمسار بموعد الرحلة البحرية إلى اليونان فعليك أن تدفع خمسين دولاراً أمريكياً كأجور أيداع للمال في المكتب، ولا شك أن التأخير يكون متعمداً ليتقاسم صاحب مكتب التأمين والمهرب والسمسار كلفة إيداع النقود لمدة إضافية في المكتب”.

يوضح مضر كيفية حصول ذلك قائلاً: “من الطبيعي أن تبدأ بالاتصال بالسمسار صباحاً لسؤاله عن موعد الرحلة، سيقول لك في البداية سننطلق في الثانية عشرة ظهراً، عندما يحين الموعد ستتصل به ليخبرك أن الموعد تغير إلى الثالثة، وفي الثالثة سيقول أن الموعد أصبح في السادسة، وسيستمر بالمماطلة حتى تتجاوز الساعة الثامنة مساء حين تغلق مكاتب التأمين، كي لا تستطيع سحب نقودك من المكتب، حينها سيقول لك المهرب لقد كشف البوليس التركي النقطة التي كنا ننوي الانطلاق منها على الشاطئ، غداً بكل تأكيد سننجح في ركوب البحر!”.

يضيف مضر: “إذا فهمت اللعبة وبدأت بشتهم السمسار أو المهرب فإنه سيتقبل الأمر لأنه اعتاد عليه، وسيخبرك بأنه لا يقدر على فعل أي شيء فهو لا يقبض سوى 50 دولاراً على كل مهاجر يدفع 1200 دولار مقابل الوصول لليونان، وربما يتجرأ المهرب على إخبارك صراحةً أن عملية التأجيل تهرف بالإضافة إلى تحصيل أرباح ايداع الاموال لأيام إضافية في مكاتب التأمين وإلى رفع أسعار نقل المهاجرين من السواحل التركية إلى اليونان بشكل مستمر”.

يختم مضر حديثه بالقول: “أنت تتعامل مع مافيا لن تتردد في قتلك إذا رفضت الانصياع لأوامرها، جميع من تتعامل معهم يتعاطون المخدرات أو الحشيش على أقل تقدير، ستتعرض لتهديدات كثيرة وعمليات ابتزاز ونصب واحتيال، عليك أن تكون يقظاً وشجاعاً لتخرج من وسط هذه المافيا بأقل الأضرار”.

ولابد من الإشارة إلى أن عمليات التأجيل المستمرة، التي تهدف إلى ابتزاز المهاجرين وسحب أموالهم، لا تؤثر على أرباح مافيا تهريب المهاجرين عبر البحر، حيث تسمح الأعداد الكبيرة للمهاجرين الواصلين يومياً إلى المدن التركية المطلة على بحر إيجة لمافيا تهريب المهاجرين بالقيام بعملية التأجيل دائماً، وكان مكتب تنسيق الشؤون الانسانية التابع للأمم المتحدة قد أعلن منذ أيام أن عدد الواصلين إلى الجزر اليونانية بعد عبورهم البحر قادمين من تركيا وصل إلى 22500 خلال ثمانية عشر يوما فقط من العاشر من تموز الماضي حتى الثامن والعشرين منه.

مخاطر كثيرة تهدد المهاجرين على البر

يتعرض المهاجرون الذين ينتظرون فرصة العبور إلى اليونان في مدن الساحل التركي إلى مخاطر احتيال كبيرة، فإيداع الاموال في مكاتب التأمين ليس أمناً كما يعتقد الكثيرون، في شهر حزيران الماضي قام أصحاب مكتب تأمين في مدينة إزمير كان معروفا باسم مكتب “سكر” بإغلاق أبوابه فجأةً وهرب القائمون عليه واختفوا من المدينة آخذين معهم مبلغاً زاد عن ثمانين ألف دولار أمريكي كان مودعاً في المكتب لصالح المهربين الذين ادعوا أمام المهاجرين بعدم علاقتهم بالمركز وذلك كما أخبر متضررون الغربال، ولم يستبعد المتضررون أن تكون عملية إغلاق المكتب قد تمت بتنسيق بين المهربين والسماسرة وأصحاب مكتب التأمين الذين هربوا فجأةً.

نوم المهاجرين في الشوارع والحدائق العامة ليلاً يعرضهم إلى خطر السرقة، كما أن انتشار مهاجرين أفارقة يشعر المهاجرين السوريين والعراقيين بالخوف دائماً ذلك أن المهاجرين الأفارقة يتحركون بمجموعات كبيرة، وتنتشر شائعات كثيرة بين المهاجرين عن قيام عصابات المهاجرين الأفارقة بارتكاب جرائم قتل و سلب بالقوة واغتصاب للمهاجرين الآخرين.

تجارة “الحشيش” وتعاطي المخدرات منتشرة على نطاق واسع في أوساط المهاجرين من الشباب الذين قد ينتظرون لأشهر ربما في إزمير والذين انخرط بعضهم في مافيا تهريب البشر التي تؤمن للعاملين بها أرباحاً أكبر من البدلات النقدية التي يتقاضاها اللاجئون في الدول الأوربية.

مهاجرون سوريون يوقعون على محاضر التعرف على المهربين عند الشرطة التركية

وبالإضافة إلى كل ذلك قد يلقي “البوليس” التركي القبض على مجموعات المهاجرين الأمر الذي ستنتج عنه وضع مجموعة المهاجرين المقبوض عليها لساعات في أحد مراكز الاحتجاز التابعة للبوليس ليتعرض المهاجرون هناك لمعاملة وصفها من جربها للغربال بالسيئة، قبل إطلاق سراحهم ليحاولوا ركوب البحر مجدداً.

ويصف ياسر خراز، وهو مهاجر ألقى البوليس التركي القبض عليه، للغربال حال المعتقلين في أحد سجون البوليس التركي في ولاية أيدن التركية قرب إزمير قائلاً: “لقد ألقى البوليس التركي القبض علينا أثناء محاولتنا ركوب البلم، قاموا بسوقنا مع أحد المهربين إلى مركز احتجاز، تركنا ليوم كامل بدون طعام أو شراب في صالة واسعة ونحن جالسون على الأرض، في النهاية طلب منا أحد الضباط الأتراك توقيع أورق نقر فيها أننا حاولنا عبور الحدود التركية بطريقة غير مشروعة، بعد أن ربط مسألة اطلاق سراحنا بالتوقيع على الأوراق، كما طلب منا أن نوقع كشهود على محاضر تحقيق ظهر فيها أن المهربين الذين قاموا بتهريبنا قد ألقي القبض عليهم ولديهم سوابق في تعاطي المخدرات وتهريب البشر وغيرها من الجرائم، قمنا بذلك قبل يطلق سراحنا بعد يومين بعد أخذ بصماتنا وتصويرنا”.

البلمْ” مركب الأحلام

بعد أن يتجاوز المهاجرون كل المخاطر المذكورة، وبعد أن يتكبدوا عناء احتمال المماطلة والتأجيل التي قد تؤخرهم لأسابيع في إزمير يصلون أخيرا إلى مرحلة ركوب “البلمْ”، وهو قارب مطاطي ينفخ بالهواء ويبلغ طوله تسعة أمتار، وهو مزود بمحرك يعمل على البينزين يمكنه من قطع مسافات تصل إلى عشرة كيلومترات عبر البحر.

تضع مافيا التهريب في “البلمْ” الواحد نحو خمسة وأربعين مهاجراً، ويتم تعليم أحدهم كيفية قيادة “البلمْ” ويطلب منهم استخدام نظام تحديد المواقع (جي بي إس) والبوصلة للوصول إلى إحدى الجزر اليونانية المقابلة للساحل التركي والتي يقصدها المهاجرون وأشهرها جزر كيوس وميتيليني وسيمي وليسفوس وليفكادا ورودوس.

تحف رحلة ركوب “البلمْ” مخاطر عديدة، فمن احتمال الغرق الوارد جداً نظراً لكون القارب المستخدم مطاطي ويمكن أن يكون مثقوباً أو أن يثقب أثناء الرحلة، إلى احتمال أن ينشب شجار بين المهاجرين على “البلمْ” ليقوم أحدهم بتمزيق “البلمْ” بسكين يحمله إذا كان يجيد السباحة ليغرق الباقين، بالإضافة إلى احتمال أن تتسبب الأمواج العالية بانقلاب “البلمْ” وغرق من فيه.

أكبر مخاطر الغرق كانت تتجسد بقيام عصابة تهريب بإغراق “بلمْ” لعصابة أخرى، إلا أن هذا الخطر انحسر بشكل كبير في الصيف الحالي بعد سيطرة مهرب تركي واحد من خلال مجموعات مهربين وسماسرة على تجارة تهريب المهاجرين من تركيا إلى اليونان.

سترات النجاة يتراوح سعرها بين 30 و80 ليرة تركية

ويحاول المهاجرون تجنب هذه المخاطر بشراء سترات النجاة التي يلبسونها أثناء الرحلة والتي تضمن طوافهم في حال غرقهم لست ساعات، كما يبتاع الواحد منهم دولاباً منفوخاً يضمن الطواف على وجه الماء لثلاث ساعات لتصبح مدة الطواف تسع ساعات وهي مدة كافية في الغالب لوصول خفر السواحل أو فرق الانقاذ، خصوصاً مع شراء المهاجرين لصفارات انذار بحرية يمكن أن ترشد فرق الانقاذ على أماكن الساقطين في الماء، وهذه المعدات مع البوصلة وأكياس عزل الماء التي يضع فيها المهاجرون أجهزتهم النقالة وأجهزتهم الالكترونية الأخرى هي من مستلزمات رحلة البحر التي يقتنيها معظم المهاجرون.

ويُسيّر خفر السواحل التركي واليوناني دوريات يومياً في المياه الإقليمية بين البلدين للبحث عن المهاجرين من ناحية، ولإنقاذ من يغرقون منهم من ناحية ثانية، وقد قام خفر السواحل من الدولتين بإنقاذ المئات من الساقطين في الماء من المهاجرين بعد غرق قوارب “البلمْ” التي يركبونها، ولم تسجل سوى حالات غرق قليلة للمهاجرين بين تركيا واليونان في الصيف الحالي، حيث ذكر تقرير لمكتب تنسيق الشؤون الانسانية في الأمم المتحدة (OCHA) أن قارباً يحمل أكثر من أربعين مهاجراً أنقلب في البحر بين تركيا واليونان في شهر تموز، وقال التقرير أنه تم انقاذ 19 شخصاً ممن كانوا في القارب، ثمانية من قبل خفر السواحل اليونانية، وأحد عشر من قبل خفر السواحل التركية، ومن ثم تم انتشال خمس جثث وبقي 16 شخصاً في عداد المفقودين ما يعني أنهم قد لقوا حتفهم غرقاً.

وتستغرق رحلة عبور البحر بين تركيا والجزر اليونانية مدة تتراوح بين الساعة الواحدة والأربع ساعات بحسب المسافة الواجب قطعها في البحر للوصول إلى إحدى الجزر اليونانية، ليكون عليهم بعدها تسلق الجبال على الجزيرة التي يصلون إلهيا للوصول إلى أحد مخافر الشرطة اليونانية لتسليم أنفسهم لها.

أعداد كبيرة من المهاجرين تصل اليونان رغم كل شيء

ذكر تقرير صدر عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في العاشر من شهر تموز أن وصول ألف لاجئ جديد إلى الجزر اليونانية المقابلة لتركيا كمعدل وسطي يومياً خلق حالة غير مسبوقة من الطوارئ لدى السلطات اليونانية.

وقال تقرير المفوضية أنه وصل 77100 لاجئ جديد إلى الجزر اليونانية عبر البحر منذ بداية العام الجاري، ما يقارب الستين في المائة منهم كانوا من السوريين أما الآخرون فكانوا يحملون جنسيات أفغانستان والعراق وأريتريا والصومال وغيرها.

وأوضح التقرير أن الغالبية العظمى من اللاجئين القادمين إلى اليونان يتجهون بعد حصولهم على وثيقة “الخارطية”، وهي بمثابة تعهد منهم على مغادرة اليونان خلال ثلاث أشهر، نحو دول غرب وشمال أوربا من خلال عبور منطقة غرب البلقان التي توجد فيها دول صربيا ومقدونيا وهنغاريا التي تعتبر دول عبور للاجئين، وشهدت هذه الدول زيادة كبيرة في عدد اللاجئين الواصلين إليها هذا العام، ففي النصف الأول من العام الجاري وصل خمسة وأربعين ألفا إلى صربيا ومقدونيا وهو ما يمثل تسعة أضعاف العدد الواصل إلى البلدين في نفس الفترة العام الماضي.

وأشار تقرير المفوضية إلى أن عدد الوافدين الجدد إلى الجزر اليونانية يفوق قدرة مراكز تحديد الهوية على الجزر اليونانية المطلة على بحر إيجة، على سبيل المثال على جزيرة ليسفوس اليونانية هناك أكثر من 3000 لاجئ يعيشون في ظروف صعبة في موقع سكن مؤقت أقامته الشرطة اليونانية في مدينة موريا على الجزيرة بالإضافة إلى ألف آخرين يقيمون في العراء خارج المنشأة التابعة للشرطة اليونانية.

التعليقات

//