حبر | العدد 109 | 19 كانون الأول 2015

أحمد أبازيد

–  لا شكَّ أنَّ سقفنا الثوري أعلى -وسيبقى-من أي بيان وُضع أو سيوضع كأرضية للتفاوض، ولكن الخطاب السياسي محكوم بسياقه وأهدافه، وليس مجالا لحسم جميع التفاصيل، فثمة ساحات ومعارك أخرى، وليست كل خطوة آخر الخطوات أو نهاية التاريخ.

–  التقدم السياسي تابع للإنجاز العسكري، ولا يعيش أحدهما دون الآخر، وإن لم يكونا متطابقين دوماً، أحدهما يرمّم الآخر أحياناً، وفي المرحلة الأخيرة رغم خسائر النظام والميليشيات الإيرانية الهائلة وانكسار هالة القوة حول العدوان الروسي، إلا أنَّ الميزان العسكري والجغرافي كان مائلاً نحوهم، بالتقدم الكبير الذي حققوه في ريف حلب الجنوبي، وبالتقدم الطفيف نسبياً مقارنة بحجم الهجمة الهائل في الساحل، وبهدنة الوعر، وبجمود جبهات درعا. ولذلك فالكلام المعاد منذ أربع سنين عن “التوقيت” المشكوك بأمره للحوار بينما النظام اقترب من السقوط هو غير واقعي. وفي كل الأحوال فإنَّ توسيع دائرة الحلفاء، وترسيخ الشرعية السياسية الدولية لقضيتنا في وضعٍ كهذا هو مطلب واجب على المستوى السياسي الخارجي.

–  لماذا تحضر هيئة التنسيق؟ ولماذا يكون هناك مستقلون؟ ولماذا لم تمثل الفصائل بأعلى من الثلث؟

هذه كلّها أسئلة مُحِقة فيما لو كنّا -كفصائل- أنجزنا أسبابنا الذاتية للتقدير والحضور كسلطة بديلة، لقد أسقطت الفصائل بقرار متسرع هيئة أركان الجيش الحر (أيلول 2013م)، في مقدمة لإقامة هيئة أركان “إسلامية” بديلة تمثلت وقتها بالجبهة الإسلامية، ولكن هذه الجبهة تقوضت أيضاً بالانقسامات الداخلية (بين أحرار الشام وجيش الإسلام كما لا يخفى)، ثم لم تنجح حتى مشاريع توحيد التمثيل العسكري في المحافظة الواحدة، وليس على مستوى وطني، كانت هيئة الأركان واجهة قانونية لتقديم شرعية عسكرية بديلة عن النظام، وكان يمكن للجبهة الإسلامية لو نجحت أو لمجلس قيادة الثورة تقديم شرعية سلطة الأمر الواقع كبديل (سيتم التعامل معها باعتبارها ميليشيات، ولكن شبه شرعية اضطراراً)، ولكن تقوَّض هذان المشروعان كما تقوَّض أي مشروع لإقامة سلطة ثورية موحدة على مستوى المناطق (الجبهة الشمالية والجبهة الجنوبية)، وكان السبب الرئيس في ذلك عدم تقدير الفصائل لأهمية إقامة هذه السلطات والشرعيات البديلة، إضافة إلى الحساسيات الشخصية، والانقسام الذي سببته مزايدات السلفية الجهادية التي ما زالت تؤثر على بعض الفصائل (أحرار الشام خاصة) فتشقّ الاصطفاف الثوري العام، وللأسف فإنَّ فصائل معينة تتحمل الوزر الأكبر من تعطيل أكثر هذه المشاريع.

إذا بعد أربع سنين، ما زلنا دون هيئة أركان ولو كواجهة تضمن شرعية عسكرية بديلة، ودون جسد عسكري موحد للفصائل، ودون سلطة ثورية حتى على مستوى المناطق، ودون واجهة سياسية مع عدم التصالح مع الائتلاف ولا تقديم بديل عنه، وكان يمكن لتحقيق الحدِّ الأدنى من هذا ضمان التعامل مع الفصائل باعتبارها الحاضن الشرعي للمشروع السياسي البديل، والذي يدخل فيه الممثلون السياسيون والكفاءات والسلطات التنفيذية. ولكن هذا لم يتحقق.

–  لعلّ الفائدة السياسية الأهم بالنسبة إلى الفصائل الثورية في مؤتمر الرياض، هو رفع الحظر السياسي الدولي عنها، بعد أن أصبحت طرفاً سياسياً شرعياً، وهو صاحب التمثيل الأعلى في هيئة التفاوض، برعاية الرياض.

إضافة إلى تعدد فضاءات الاشتغال والعلاقات المتاحة بعدما أضحت الرياض مقرَّ هذه الهيئة، وكنَّا منذ عامين في الفترة التي تلت سقوط مرسي وانسحاب السعودية من المشهد السوري، لا نكاد نخرج من تركيا بصفة ثورية أو فصائلية للدول العربية، حتى الدول الغربية كان دخول ممثلي الفصائل إليها أسهل من دخولهم دولة عربية (بفضل بروكينجز وكارتر والـ HD).

العلاقة المباشرة والمستدامة مع السعودية كحليف داعم للثورة السورية والفصائل هي أمر مهمّ، ولم يتحقق من قبل، حتى حين كانت السعودية مشاركة في دعم بعض التشكيلات العسكرية، بينما تتعامل الآن مع الفصائل عامة، وبعلاقات شخصية مباشرة، ولا شك أنَّ هناك اختلافاً حقيقياً في السياسة الخارجية للسعودية في حقبة الملك سلمان، وإن كان التغير السياسي يتم بخطوات بطيئة، هذا لا يعني أنَّه مثالي، ولسنا مضطرين لتبرير أي علاقة ولا أن تكون علاقتنا مع دول الأنبياء فقط، ولسنا مشجعي كرة قدم لنتعامل بمنطق الأبيض والأسود، وما يهمّنا هو دعم السعودية لقضيتنا والشراكة معها كحليف سياسي وعسكري  يمكن لثقله أن يحقّق فرقاً.

–  بالنسبة إلى بيان الرياض فسقفه مقبول بالنسبة إلى إطار جنيف 1 ومشاركة هيئة التنسيق، وهو يتضمّن رحيل بشار الأسد كشرط مسبق للعملية الانتقالية، والإفراج عن المعتقلين من الأطفال والنساء، ووقف الإعدامات، وفكّ الحصار عن المناطق المحاصَرة، ووقف القصف بالطيران الحربي والصواريخ للمناطق المحررة كشرط مسبق لبدء التفاوض. وكلا الأمرين لا نضمن قبول النظام (أو إيران بالأحرى) بهما، حتى ننتقل لما بعده بحكم الحاصل.

أما الأمر الأهم والذي ينقص البيان، فهو النص على محاكمة مسؤولي النظام المتورطين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان، وكذلك عدم التفريق ما بين المؤسسة الأمنية والعسكرية بالنسبة إلى مصطلح “إعادة الهيكلة”، وكان السقف المطلوب هو حلّ الأجهزة الأمنية، وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية بإشراف الضباط المنشقين وغير المتورطين بانتهاكات، أمَّا السقف الثوري المأمول فقد فقدناه مع فقدان هيئة الأركان التي كان يمكن طرحها كمؤسسة عسكرية شرعية بديلة يتم دمج من لم يتورطوا بانتهاكات من جيش النظام في إطارها.

الائتلاف والفصائل يغيب عنهم عامَّة أهمية “الرمزي” في الصراع السياسي، وفي تمكين قضيتنا والدفاع عنها، ولا يقلّ “الرمزي” أهمية عن “القانوني” في هذا، بل يفوقه لأنَّه يصنع نظام الممكن والمسكوت عنه في الحقل السياسي الذي يتبع له، فلم نجد في المؤتمر تأكيداً على علم الثورة مثلاً، ولا على مسمى الثورة السورية والجيش الحر، وهي أمور يتبع لها بقدر كبير تقدير انتصار الثورة أو تمكينها من هزيمتها تاريخياً، وينبغي أن تكون في مقدمة أولوياتنا، ويعمل الجميع على الضخ فيها.

وللأسف الكبير، فإنَّ مرضى المنهج والمزايدات بيننا، ما زال بينهم حتى اللحظة من يتردد في الانتماء الرمزي الثوري الذي يحفظ له وجوده وشرعيته، بعدما أوهمته المزايدات والانقسام المتوهم والسخيف ما بين إسلاميين وجيش حر (زعموا!)، أنَّه ينتمي لمجال وحقل مختلف وأسمى، وما زال المطلوب من أحرار الشام ومن جيش الإسلام أن يحسموا مسمياتهم باعتبارهم من الجيش الحر وشعاراتهم برفع علم الثورة في كل بيان ومقر ومعركة، وجيش الإسلام قطع مراحل أكثر تقدّماً من الأحرار في هذا السياق للأمانة.

رغم نص بيان فيينا الأخير، على وقف إطلاق النار بداية العام القادم، إلا أنَّه لا يجب الحسم بأنَّ الدول متجهة لفرض وقف إطلاق النار تحت البند السابع، وقد عوّدتنا البيانات والاتفاقات الدولية، أنَّها أكثر مرونة من اتفاقات العشاء بين الأصدقاء العزاب، وأنَّ حسم الدول في إمضاء الحلول يتبع لتوافقات دولية ومعطيات ميدانية لا تتوفر في وقت قصير في الحالة السورية، دون استبعاد إمكانية الاتفاق على وقف إطلاق نار في ذلك الوقت، كبادرة من قبل الثوار والنظام، ولكن استمرار ذلك غير مضمون بالضرورة.

بالنسبة إلى انسحاب حركة أحرار الشام.

كان متوقّعاً عدم قدرة الحركة الذهاب إلى النهاية، وجناح معيّن في الحركة أكثر من سواه، بحكم وجود سقف خطابي لم تصل الحركة بعد إلى القدرة على تبريره أو التفاهم عليه مع الحلفاء الميدانيين في جيش الفتح، جبهة النصرة طبعاً.

وقد كان المطلوب من أحرار الشام عدم التفرد بالقرار عن الفصائل، او التنسيق معهم قبل الانسحاب على الأقل، باعتبار أنَّ كتلة الفصائل ذهبت بقرار موحد إلى الرياض، وبتفاهمات موحدة أيضاً، ولم يكن إيجابياً أن تبدو هذه الكتلة -عدا عن عدم توحّدها المؤسسي في جسم واحد-منقسمةً داخلها أيضاً في الموقف السياسي.

وكان المطلوب من أحرار الشام بعد انسحابهم، أن يكونوا أوَّل من يتصدى في الدفاع عن إخوانهم من الفصائل الأخرى بعدما أضحوا مكشوفين لمزايدات المنهج وتخوينهم وتكفيرهم، باعتبار أنَّ الأحرار كانوا وسيبقون جزءاً من الفصائل الثورية، وليسوا جزءاً من منهج السلفية الجهادية ولا من التيار الجهادي المعولم، وعبثاً يفعل من يحاول إقصاءها أو اجتزاءها عن الفصائل الثورية، سواءٌ من إخوة المنهج أو من المصابين بعقدة الإسلاميين بين السوريين أو الدول.

وهذا الكلام قلناه للأحرار من قبل وحين صدر القرار وما زلنا، وهو عتبُ الأحبة ونصح المشفقين، لا نقدُ الخصوم، وقادة الأحرار وشبابهم الذين أعرفهم في المقرات لا على الانترنت أدرى بمدى محبتي وانتمائي للأحرار ممًّن يتصيّد الاختلافات ليتوهم العداوة.

هذه ليست المرحلة الأخيرة من الثورة، ولا من الحرب، وإنَّما ساحة صراع سياسي فُتحت، وعلينا أن ندخلها بأدواتها، وبأفضل ما يمكن من التماسك والتفاهم، وجهادُنا قائم وماضٍ ضدَّ أعداء الله والوطن من النظام المجرم أو الميليشيات الإيرانية أو تنظيم داعش الغادر، وصوت السلاح لن يخفت، ولن ينزعه منّا أحد.

خطواتنا المقبلة هو ترميم نواقص الخطاب السياسي الماضي، والإصرار على محاكمة مجرمي النظام، والتأكيد على رموز الثورة كأولوية، وإعادة إحياء مشروع هيئة الأركان من جديد، وهو سهل وممكن حين تتوفر الإرادة.

والله غالب

التعليقات

//